خطبة
خُطْبَةُ الْجُمُعَة
03.12.2025
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ، وَرَزَقَهُ نِعْمَةَ الْعَقْلِ وَالتَّفْكِيرِ، وَجَعَلَهُ قَادِرًا عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَبَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَلِذَلِكَ أَمَرَنَا دِينُنَا أَنْ نَتَجَنَّبَ كُلَّ مَا يُؤْذِينَا أَوْ يَضُرُّ بِمُجْتَمَعِنَا. وَمِنْ أَخْطَرِ مَا نَهَى الْإِسْلَامُ عَنْهُ الْقِمَارُ وَأَلْعَابُ الْحَظِّ. فَالْقِمَارُ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى طَاوِلَاتِ اللَّعِبِ التَّقْلِيدِيَّةِ، أَوْ فِي صُورَةٍ حَدِيثَةٍ كَالْيَانَصِيبِ، وَاللُّوتُو، وَالْمُرَاهَنَاتِ الرِّيَاضِيَّةِ، وَمَوَاقِعِ الْقِمَارِ الْإِلِكْتِرُونِيَّةِ – فَكُلُّ ذَلِكَ يَدْخُلُ تَحْتَ حُكْمٍ وَاحِدٍ. لِأَنَّ الْقِمَارَ قَائِمٌ عَلَى كَسْبِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ بِخَسَارَةِ الْآخَرِ، وَلَيْسَ فِيهِ عَمَلٌ وَلَا إِنْتَاجٌ، بَلْ هُوَ مَالٌ يُؤْخَذُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَجُرُّ صَاحِبَهُ إِلَى الطَّمَعِ وَالتَّعَلُّقِ بِالْأَوْهَامِ، بَدَلَ السَّعْيِ وَالِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ الْحَلَالِ. وَقَدْ حَذَّرَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ تَحْذِيرًا شَدِيدًا، فَقَالَ: «مَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ.» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَنْهَى عَنْ فِعْلِ الْقِمَارِ فَقَطْ، بَلْ عَنْ مُجَرَّدِ النُّطْقِ بِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ فِتْنَةٍ تُفْسِدُ مَعْنَى الرِّزْقِ الطَّيِّبِ.
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
إِنَّ الْقِمَارَ الَّذِي كَانَ يُمَارَسُ فِي الْمَقَاهِي وَالْأَمَاكِنِ الْخَفِيَّةِ قَدْ تَغَيَّرَ شَكْلُهُ فِي زَمَنِنَا، فَأَصْبَحَ يُمَارَسُ بِصُورَةٍ أَخْطَرَ فِي يَوْمِنَا هَذَا. فَالْيَوْمَ، أَصْبَحَ الْقِمَارُ سَهْلٌ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ، وَأَصْبَحَتْ الْهَوَاتِفُ الذَّكِيَّةُ وَأَجْهِزَةُ الْكُمْبِيُوتَرِ وَالتَّطْبِيقَاتُ الْإِلِكْتِرُونِيَّةُ بَابًا مُتَاحًا لِكُلِّ فِئَاتِ الْمُجْتَمَعِ. إنَّ مَوَاقِعَ الرِّهَانِ الْإِلِكْتِرُونِيِّ وَالْقِمَارِ، وَمَا يَخْتَبِئُ فِي بَعْضِ الْأَلْعَابِ مِنْ “صَنَادِيقِ الْحَظِّ” وَالْيَانْصِيبِ الرَّقْمِيِّ، تَسْتَهْدِفُ الشَّبَابَ خُصُوصًا، وَتَسْتَدْرِجُهُمْ بِالْأَلْوَانِ وَالْمُؤَثِّرَاتِ، وَتُقْنِعُهُمْ بِالرِّبْحِ السَّرِيعِ. وَمَا هِيَ إِلَّا خُطُوَاتٌ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا، حَتَّى يَصِيرَ الْإِنْسَانُ مُدْمِنًا لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ. وَيَأْتِي يَوْمٌ يَذْهَبُ فِيهِ الْمَالُ، ثُمَّ تَنْعَدِمُ الطُّمَأْنِينَةُ، ثُمَّ يَتَفَرَّقُ شَمْلُ الْأُسْرَةِ؛ وَكُلُّهُ بِسَبَبِ ضَعْفِ الْإِيمَانِ وَوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَيُؤَدِّي ذَلِكَ خُسْرَانَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
أيُّها الإخْوَةُ الأفاضِل،
لَيْسَ الْقِمَارُ خَسَارَةَ مَالٍ فَقَطْ؛ بَلْ هُوَ خَسَارَةُ وَقْتٍ، وَخَسَارَةُ طُمَأْنِينَةٍ، وَخَسَارَةُ كَرَامَةٍ. مُدْمِنُ الْقِمَارِ يَبْتَعِدُ عَنْ دِينِهِ، وَصَلَاتِهِ، وَعِبَادَتِهِ، وَيَفْقِدُ الْإِحْسَاسَ بِمَسْؤُولِيَّتِهِ تُجَاهَ أَهْلِهِ وَمُجْتَمَعِهِ. وَقَدْ صَوَّرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَقِيقَةَ هَذَا الْبَلَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ فَفِي هَذِهِ الآيَةِ، يُبَيِّنُ اللهُ أَنَّ القِمَارَ لَيْسَ مُجَرَّدَ خسارة مالية، بَلْ هُوَ مَرَضٌ يُفْسِدُ الإِيمَانَ، وَيَقْطَعُ العَبْدَ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ. وَإِنَّ القِمَارَ، بِمَا يَجُرُّهُ مِنْ إِدْمَانٍ وَاِضْطِرَابٍ نَفْسِيٍّ وَمَشَاكِلَ أُسَرِيَّةٍ وَغَرَقٍ فِي الدُّيُونِ وَتَدَهْوُرٍ فِي الْعَلَاقَاتِ، يُسَبِّبُ دَمَارًا قَدْ يَبْلُغُ بِالبَعْضِ إِلَى الإِنْتِحَارِ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ،
إِنَّ أَقْوَى دَوَاءٍ لِدَاءِ الْقِمَارِ فِي عَصْرِنَا هُوَ: اَلْإِيمَانُ، وَالْعِلْمُ. وَلِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ نَبْدَأَ بِعَائِلَتِنَا؛ فَيَنْبَغِي لِلْوَالِدَيْنِ أَنْ يُرَاقِبُوا اِسْتِخْدَامَ أَوْلَادِهِمْ لِلْإِنْتَرْنِتْ، وَأَنْ يَغْرِسُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْأَخْلَاقَ، وَقِيَمَ الدِّينِ وَالْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَكَيْفِيَّةَ اِسْتِخْدَامِ اَلْأِنْتَرْنِتْ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَقُومَ مَسَاجِدُنَا، وَمَرَاكِزُنَا الشَّبَابِيَّةُ، وَمُؤَسَّسَاتُنَا التَّعْلِيمِيَّةُ بِإِقَامَةِ دُرُوسِ التَّوْعِيَةِ فِي كَيْفِيَّةِ اسْتِخْدَامِ الْإِنْتَرْنِتْ، وَمُحَاضَرَاتٍ مُخَصَّصَةٍ لِمُحَارَبَةِ الْإِدْمَانِ، لِيَتَعَرَّفَ الشَّبَابُ عَلَى مَخَاطِرِ هَذِهِ الْفِتَنِ قَبْلَ أَنْ يَقَعُوا فِيهَا. وَيَجِبُ عَلَى الْآبَاءِ، وَالْأَئِمَّةِ، وَالْأَسَاتِذَةِ، وَالْمُرْشِدِينَ التَّرْبَوِيِّينَ أَنْ يَتَعَاوَنُوا، لِيَحْمِلُوا إِلَى أَبْنَائِنَا نُورَ الْهُدَى، وَلِيُحَافِظُوا عَلَى نَقَاءِ عُقُولِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ. إِنَّ لِمُوَاجَهَةِ هَذَا الدَّاءِ يُشْتَرَطُ تَعَاوُنٌ مُجْتَمَعِيٌّ؛ فَعَلَى الدَّوْلَةِ، وَمُنَظَّمَاتِ الْمُجْتَمَعِ الْمَدَنِيِّ، وَوَسَائِلِ الْإِعْلَامِ، وَشَرِكَاتِ التِّقْنِيَةِ مَنْعُ إِعْلَانَاتِ مَوَاقِعِ الْقِمَارِ، وَتَشْدِيدُ الرِّقَابَةِ عَلَيْهَا، وَعَلَى الْمَرَاكِزِ الصِّحِّيَّةِ، وَالْمُسْتَشَارِينَ النَّفْسِيِّينَ، أَنْ يُقَدِّمُوا دَعْمًا نَفْسِيًّا وَاجْتِمَاعِيًّا لِمَنْ تَضَرَّرَ مِنْ الْقِمَارِ.
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
لَا نَنْسَ أَنَّ الرِّزْقَ الْحَلَالَ يَجْلِبُ الْبَرَكَةَ، وَأَنَّ الْمَالَ الْحَرَامَ لَا يَزِيدُ إِلَّا قَسَاوَةً فِي الْقَلْبِ وَظُلْمَةً فِي الْحَيَاةِ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ». وَهَذَا يُعَلِّمُنَا أَنَّ الثَّبَاتَ عَلَى الْحَلَالِ عِبَادَةٌ، وَاجْتِنَابَ الْحَرَامِ مِنْ التَّقْوَى، وَإِنَّ الْقِمَارَ بِكُلِّ صُوَرِهِ يُخَالِفُ هَذَا الْمَعْنَى النَّبِيلَ فَهُوَ طَرِيقٌ يُفْسِدُ الْقَلْبَ، وَيَقْطَعُ الْبَرَكَةَ، وَيَفْقَد الْإِنْسَانُ مَعْنَى السَّعْيِ الشَّرِيفِ وَالرِّزْقِ الطَّيِّبِ. فَلْنَحْرِصْ عِبَادَ اللَّهِ عَلَى أَنْ يَبْقَى مَالُنَا حَلَالًا، وَقُلُوبُنَا مُطْمَئِنَّةً، بِالِابْتِعَادِ عَنْ فِتَنِ الْقِمَارِ وَغَيْرِهِ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ.
اللَّهُمَّ احْفَظْنَا مِنْ الْقِمَارِ وَكُلِّ مَالٍ لَا يُرْضِيكَ. اللَّهُمَّ صُنْ أَبْنَاءَنَا وَبَنَاتِنَا مِنْ هَذِهِ الْفِتَنِ. اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حَلَالًا طَيِّبًا، وَاجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ وَالْقَنَاعَةِ. اللَّهُمَّ امْلَأْ قُلُوبَنَا ذِكْرًا، وَأَيَّامَنَا طَاعَةً، وَحَيَاتَنَا سَكِينَةً. وَاجْعَلْنَا أُمَّةً تَسْعَى لِلْحَلَالِ وَتَجْتَنِبُ الْحَرَامَ. آمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.









