أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ الْأَعِزَّاءُ 

 اَللَّهُ الَّذِي خَلَقَ الْعَالَمِينَ مِنَ الْعَدَمِ خَلَقَنَا كَكَائِنَاتٍ تُتَاحُ لَنَا الْفُرْصَةُ لِنَكُونَ أَشْرَفَ الْخَلِيقَةِ.

عِنْدَمَا يَسْعَى الْإِنْسَانُ إِلَى أَنْ يَكُونَ عَبْدًا حَقيقِيًّا لِلَّهِ ، فَإِنَّهُ يَصِلُ إِلَى مَرْتَبَةٍ أَعْلَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ.

 وَقَدْ تَمَّ الْإِعْلَانُ عَنْ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ نَفْسِهِ أَنَّ ابْنَ آدَمَ هُوَ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ . { هُوَ ٱلَّذِی جَعَلَكُمۡ خَلَـٰۤىِٕفَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ فَمَن كَفَرَ فَعَلَیۡهِ كُفۡرُهُ }.

إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، اَلَّذِي عَهِدَ إِلَيْنَا بِالْحِفَاظِ عَلَى الْعَالَمِ كُلِّهِ ، حَصَرَ حَيَاتَنَا فِي الدُّنْيَا بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ . وَلِهَذَا السَّبَبِ فَمِنَ الضَّرُورِيِّ أَنْ نُدْرِكَ أَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ الَّتِي تَحَمَّلْنَاهَا لَيْسَتْ أَبَدِيَّةً ، وَأَنَّهُ عِنْدَمَا يَأْتِي يَوْمُ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ سَيَطْرُقُ بَابَنَا .

 أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْأَعِزَّاءُ 

 بَدَأَ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ الْعَدِيدَ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ بِالْقَسَمِ عَلَى أَشْيَاءَ عَظِيمَةٍ . فَمَثَلًا سُورَةُ الْعَصْرِ ، فَقَدْ بَدَأَتْ بِالْقَسَمِ بِالْوَقْتِ .

{ وَٱلۡعَصۡرِ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَفِی خُسۡرٍ إِلَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَتَوَاصَوۡا۟ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡا۟ بِٱلصَّبۡرِ }.

وَوِفْقًا لِغَالِبِيَّةِ الْعُلَمَاءِ ، فَإِنَّ كَلِمَةَ ” الْعَصْرِ ” تَعْنِي ” الزَّمَنَ الْمُطْلَقَ ” وَفِي بِدَايَةِ السُّورَةِ أَقْسَمَ اللَّهُ بِالْوَقْتِ لِإِبْرَازِ مَكَانَتِهِ وَأَهَمِّيَّتِهِ فِي حَيَاةِ الْإِنْسَانِ . يَقُولُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ ، أَحَدُ الْمُفَسِّرِينَ الْعُظَمَاءِ لِلْقَرْآنِ ، فِي شَرْحِهِ لِسُورَةِ الْعَصْرِ : ” كَانَ بَائِعُ الثَّلْجِ يَصْرُخُ فِي السُّوقِ : اِرْحَمْ مَنْ ذَابَ رَأْسُ مَالِهِ ” يُتَابِعُ وَيَقُولُ؛ وَلَمَّا سَمِعْتُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ قُلْتُ : هَذِهِ الْكَلِمَةُ هِيَ مَعْنَى سُورَةِ الْعَصْرِ . إِنَّ الْحَيَاةَ الَّتِي وَهَبَهَا اللَّهُ لَنَا تَذُوبُ بِسُرْعَةِ الْجَلِيدِ . إِذَا أَهْدَرَهَا الْإِنْسَانُ أَوْ أَنْفَقَهَا فِي الْمَكَانِ الْخَاطِئِ ، فَسَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى خُسْرَانِهِ . إِنَّ الْقَسَمَ عَلَى الْوَقْتِ الْمُنْقَضِي يُشِيرُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ سَتَضِيعُ إِذَا أَمْضَاهَا الإِنْسَانُ مَحْرُومًا مِنَ السِّمَاتِ الْإِيجَابِيَّةِ الْأَرْبَعِ ؛ وَالْمُفْلِحُونَ هُمُ الَّذِينَ لَدَيْهِمْ هَذِهِ الْخَصَائِصُ الْأَرْبَعَةُ وَالَّذِينَ يُنَظِّمُونَ أَوْقَاتَهُمْ وِفْقًا لِذَلِكَ . 

أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْأَعِزَّاءُ 

دَعُونَا لَا نَنْسَى أَنَّ الْحَيَاةَ الَّتِي وَهَبَهَا رَبُّنَا هِيَ حَيَاةٌ سَرِيعَةُ الزَّوَالِ وَوَقْتُهَا مَحْدُودٌ . دَعُونَا نُقَدِّرُ وَقْتَنَا وَلَا نُضِيعُهُ فِي أَشْيَاءَ لَا تُفيدُ دُنْيَانَا وَلَا آخِرَتَنَا . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

” نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ.”

 وَالْمُؤْمِنُ الْوَاعِي لَا يُضِيعُ حَيَاتَهُ بِأَعْمَالٍ عَدِيمَةِ النَّفْعِ . بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى أَنْ لَا تَمُرَّ هَذِهِ الْحَيَاةُ بِلَا نَفْعٍ . وَفِي هَذَا السِّيَاقِ يَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى :

{ فَإِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ یُسۡرًا إِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ یُسۡرࣰا فَإِذَا فَرَغۡتَ فَٱنصَبۡ وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرۡغَب }

أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْأَعِزَّاءُ

نَحْنُ بِحَاجَةٍ لِمَعْرِفَةِ قِيمَةِ الْوَقْتِ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “اِغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ : شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ”.

دَعُونَا نَجْعَلِ الْأَنْفَاسَ الْقَلِيلَةَ الَّتِي أَعْطَانَا اللَّهُ إِيَّاهَا فِي سَبِيلِهِ وَمِنْ أَجْلِ مَا يُرْضِيهِ . دَعُونَا نُكَرِّسْ أَنْفُسَنَا لِمَا يَنْفَعُنَا فِي دُنْيَانَا وَآخِرَتَنَا . وَفَّقَنَا اللَّهُ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ ، آمِينْ . .

خطبة أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ الْأَعِزَّاءُ